لمسات بيانية في سورة البلد (الآيات: 14 إلى نهاية السورة)لمسات بيانية في سورة البلد - الآيات:
14 إلى نهاية السورة برنامج لمسات بيانية - د. فاضل السامرائي ود. حسام النعيمي تفريغ
موقع إسلاميات حصريًا آية (14)
أو إطعام في يوم ذي مسغبة) لماذا
استخدام كلمة (مسغبة) بدل سغب مثلاً أو جوع أو مخمصة؟ أولاً هناك مسألتين لاستعمال كلمة مسغبة بدل السغب أو الجوع أولها: أن المسغبة تعني الجوع العام والجماعي وليس للفرد والسغب هو الجوع الفردي. وثانياً أن المسغبة هي الجوع العام مع التعب والإرهاق ولهذا خصص باستعمال (مسغبة) أما الجوع فلا يرافقه بالضرورة التعب والإرهاق، أما المخمصة فهي الجوع الذي يرافقه ضمور البطن. وهذه عقبة من عقبات المجتمع إنه في يوم مجاعة مع التعب والإرهاق وهو اليوم الذي فيه الطعام عزيز وغير مبذول وهو دلالة على شدة الضيق والكرب كما قال بعض المفسرين، وهناك فرق بين الإنفاق في وقت الطعام فيه متوفر ويوم ذي مسغبة وهو ليس كأي يوم من الأيام. وهنا خصص القرآن في وصف العقبة واليوم واليتيم والمسكين فيما بعد. لماذا استخدام لفظ (إطعام) وليس طعام مثلاً أو أن تطعموا؟ من الناحية اللغوية من الممكن القول: أن تطعموا، إطعام أو طعام . الطعام تحتمل معنيين أولهما أن تكون بمعنى المصدر لفعل أطعم وهي تعني عملية الأكل نفسها (فلينظر الإنسان إلى طعامه) (ولا تحاضّون على طعام المسكين) وثانيها أن يكون هو الأكل نفسه. وكل آية ورد فيها لفظ (طعام) فيها احتمالين في المعنى (الطعام والإطعام) كما قال المفسرون وكلاهما مرادان في المعنى. لكن في هذه السورة ومن سياق الآيات نلاحظ أن المُراد هنا معنى (إطعام) لأن اليوم ذي مسغبة والمقصود الأكل لأن الجوع مع التعب يُسبب إطعام. أما عدم استخدام (أن تطعموا) لأن الفعل المضارع مع وجود إنّ يدل معناه على الحدوث مستقبلاً ولكن هذا المعنى لا يصح في الآية لأن المسغبة قائمة ويجب أن يكون الإطعام فوراً ولهذا استخدمت الصيغة الإسمية. آية (15)-(16)
يتيماً ذا مقربة (15) أو مسكيناً ذا متربة(16)) مقربة تعني القريب في النسب وفي الرحم وتجتمع فيه الصدقة وصلة الرحم فهو أولى وتختلف عن القرابة أو القُربى في اللغة. القرابة هي عامّة مثل القرابة في النسب، أما القُربى فقد تكون في النسب وفي الرحم كالأخ والأخت والمقربة هي بينهما وهي أعمّ. ما اللمسة البيانية في استخدام (أو) بدل حرف العطف (الواو)؟إذا استخدم الواو فإنه يدلّ على أن اقتحام العقبة لا يتم إلا إذا اجتمعت كل هذه الأمور (إطعام اليتيم والمسكبن وفك الرقبة) ولكن المقصود في الآيات أنه من فعل أحد هذه الأمور يقتحم العقبة وهو بحسب استطاعته فمن استطاع فك رقبة يكفيه ومن استطاع إطعام اليتيم أو المسكين يكفيه أيضاً وهذا من رحمة الله تعالى الواسعة بعباده. وهذا من باب التخيير فالإنسان يختار ما يستطيع بحسب امكانياته وظروفه. يتيماً مفعول به للمصدر إطعام. ما فائدة تقديم فك رقبة على إطعام في يوم ذي مسغبة؟ أولاً المسكين ذو المتربة هو ليس أي مسكين أو المسكين بشكل عام. وفي الآيات: اليوم مخصص بأنه (ذى مسغبة) واليتيم مخصص (ذا مقربة) والمسكين خصص (ذا متربة) وقد فرّق المفسرون بين الفقير والمسكين وقالوا أن الفقير هو من انكسر فقار ظهره من الحاجة وهو الذي لا يملك قوت يومه أما المسكين فهو الذي لديه عمل أو رزق لكن لا يكفي حاجته واستدلوا بذلك على قوله تعالى في سورة الكهف في وصف أصحاب السفينة (وأما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر) سمّاهم المساكين مع أنه كان لديهم سفينة وكانوا يعلمون في البحر لكن مدخولها لا يكفيهم. والمتربة هو الفقر وهو من التراب بمعنى التصق بالتراب من فقره، إذن (مسكيناً ذا متربة) هو المسكين الفقير الذي لا مأوى له وهو مطروح على قارعة الطريق وهذا ليس من المساكين العاديين وإنما من خصوص المساكين وهذا صنف ما زلنا نراه في المجتمعات. أما سبب التقديم (فك رقبة) أولاً فهو إشارة إلى عِظم الحرية في الإسلام إذا كان بمعنى الرِّق لأنه الأولى في الحياة التحرير بالنسبة للأفراد والشعوب في المجتمعات. وثانياً قد يكون الشخص مطلوب بدم أو بشيء آخر أو غارم فأولى شيء عنده أن تفك رقبته وقد يكون هو الأحوج إلى الإطعام والفك من غيره من الأيتام والمساكين لأنه إذا كان مطلوباً فإنه لن يكون قادراً على الخروج لطلب الطعام أو غيره فاليتيم ممكن أن يخرج للبحث عن الطعام وكذلك المسكين أما الغارم أو المطلوب فهو الأولى بذلك لذا جاء ذكره أولاً وهو أوّل ما يُفك وهو أسبق من اليتيم والمسكين. ثم اليتيم بعد فك الرقبة لأنه في اليوم ذي المسغبة واليتيم هو الصغير دون سن البلوغ فإذا بلغ انتفت عنه صفة اليتم، هذا الصغير اليتيم في مثل هذا اليوم ينبغي أن يُراعى ويُتفقد في هذا اليوم العصيب ذي مسغبة وماذا سيأكل في هذا اليوم. ثم يأتي المسكين وهو أكبر سنّاً من اليتيم ويمكن أن يفعل شيئاً للحصول على الطعام بعكس اليتيم إذن فهي مرتبة بحسب الحاجة في ذلك الوقت وهي مرتبة بحسب القلّة والكثرة من القلّة إلى الكثرة (المطلوبين والغارمين قليلون في المجتمعات أما إذا كانوا رقيقاً فهم لم يعودوا موجودين أصلاً) ثم الأيتام أكثر من الغارمين والمطلوبين لكنهم أقل من المساكين لأن هؤلاء اليتامى سيكبرون وتنتفي عنهم صفة اليتم، أما المساكين فهم الأكثر في المجتمعات. ما علاقة الآيات بما قبلها؟ الأيات مرتبطة بقوله تعالى (لقد خلقنا الإنسان في كبد) فهؤلاء الغارمون والمطلوبون والمسترَقّون واليتامى والمساكين كلهم مكابدون وكذلك مرتبطة بقوله تعالى (أهلكت مالاً لُبدا) كان ينبغي له أن يُنفق على هؤلاء المساكين واليتامى والغارمين شيئاً من ماله الذي أهلكه في غير وجه حق، ومرتبطة بقوله (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) لأن فك الرقاب وإطعام المحتاجين من المرحمة وهؤلاء من أحوج الناس إلى الصبر أيضاً. آية (17)
ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ) دلالة الآية: بعد أن ذكر تعالى الأصناف واقتحام العقبة ذكر (ثم كان من الذين آمنوا) لأن الشرط الأساسي هو الإيمان وجاء بـ (ثم) والمعروف في النحو أن (ثم) تفيد الترتيب والتراخي ولكن ليس دائماً فقد يكون من أشهر دلالاتها أنها لمجرد ترتيب الذكر أحياناً يؤخّر ما هو أولى مثال قوله تعالى (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) (فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد) قد تكون الترتيب للأخبار وليس للترتيب الزمني (تراخي رتبة الإيمان عمّا قبلها لأنه لا ينفع شيء بدون إيمان، فالإيمان أنفع من فك رقبة وهو الأول وكل ما ذُكر قبلاً لا تنفع في الآخرة إلاّ إذا كان مؤمناً. إذن الأساس أن يكون من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة. في غالبية آي القرآن الكريم يأتي ذكر الذين آمنوا مقرونا بـ (عملوا الصالحات) أما في هذه الآية لم يذكر (عملوا الصالحات) وهذا لأنه سبحانه وتعالى قد ذكر الأعمال الصالحة فيما سبق من الآيات في السورة (فك رقبة، إطعام في يوم ذي مسغبة) فذكر كل ما يتعلق بمكابدة المال وذكر العمل لذا كان معنى العمل واضح في الآيات. ما اللمسة البيانية في تكرار فعل (تواصوا) في الآية؟ هناك ثلاثة احتمالات لهذه الجملة: 1. وتواصوا بالصبر وبالمرحمة: بتكرار حرف الجر دون الفعل. 2. وتواصوا بالصبر والمرحمة: بالعطف دون حرف جرّ. 3. تواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة: بتكرار الفعل وهي أقوى التعبيرات لأن فيها توكيد لأهمية كل واحد من الصبر والمرحمة. فالتواصي بالصبر مهمٌ بذاته والتواصي بالمرحمة مهمٌ بذاته أيضاً وهذه السورة مبنية كلها على الصبر والمرحمة. والمرحمة هي ليست الرحمة فقط ولكنها عامة وهي أهم من الرحمة والسورة كلها مبنية على الصبر والمرحمة. الصبر: (وأنت حلٌ بهذا البلد) لما يلاقيه الرسول r من الأذى ، (ووالد وما ولد) لأن تربية الأولاد تحتاج إلى صبر طويل، وكذلك سلوك النجدين يحتاج إلى صبر واقتحام العقبة والرقبة المسترقّة والغارم واليوم ذي المسغبة كله يحتاج إلى صبر طويل وكذلك اليتيم والمسكين والذين آمنوا يحتاجون إلى الصبر على الطاعات والصبر عن المعصية. كذلك المرحمة: (وأنت حلٌ بهذا البلد) بمعنياها (حلّ) الأحرى أن يُعامل بالمرحمة وليس بالأذى وإذا كان بمعنى حلال فالرسول r قال يوم فتح مكة (اليوم يوم مرحمة)، (ووالد وما ولد) والعلاقة بينهما علاقة رحمة وبر، (أهلكت مالاً لبدا) الذي أهلك المال يحتاج إلى رحمة، الرقبة المسترقّة واليوم ذي المسغبة واليتيم والمسكين والذين آمنوا ينبغي أن يتواصوا بالمرحمة (رحماء بينهم) فالسورة كلها مبنية على الصبر والمرحمة لذا ينبغي التواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة. ذكر التواصي بالصبر أولاً ثم التواصي بالمرحمة لأنه تعالى قدّم في السورة ما يحتاج إلى الصبر من المكابدة والمشقة واقتحام العقبة والنجدين وكلها يحتاج إلى صبر ثم إلى مرحمة (في اطعام اليتامى والمساكين) هذا والله أعلم. آية (18)-(19)
أولئك أصحاب الميمنة(18) والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة (19) ) ما المقصود بالميمنة والمشئمة؟ الميمنة احتمال أن تكون من اليُمن أي الخير والبركة، أو من اليمين أي الإتجاه اليمين أو من أصحاب اليمين الذين يُعطون صحائفهم بأيمانهم. إذن الميمنة لها ثلاثة دلالات: 1. أصحاب جهة اليمين 2. الذين يُؤتون صحائفهم بأيمانهم 3. أصحاب اليُمن والخير والبركة لأنهم أفاضوا على أنفسهم (لقتحموا العقبة) وعلى غيرهم (إطعام اليتامى والمساكين وفك الرقبة). والمشئمة أيضاً تحتمل ثلاثة دلالات هي: 1. أصحاب جهة الشمال (أصحاب النار الأشقياء) 2. الذين يُؤتون صحائفهم بشمالهم 3. من الشؤم وهو ضد اليُمن لأنهم كانوا أصحاب الشؤم على أنفسهم (أهلكت مالاً لبدا) وعلى غيرهم (الذين لا يقتحمون العقبة ولا يطعمون اليتامى والمساكين ولا يفكون القراب ويسترقّون الناس ويستحلون حرمة البلد الحرام والرسول r). إذن أصحاب الميمنة تختلف عن أصحاب اليمين لأنها أعمّ والميمنة جمعت عدة معاني وجاء في آخر الآيات ذكر اليُمن على غيرهم (فك رقبة، اطعام في يوم ذي مسغبة) فكان أولى أن يستخدم لفظ (الميمنة) بدل اليمين. ما اللمسة البيانية في استخدام (هم) مع أصحاب المشئمة دون أصحاب الميمنة في قوله تعالى: هم أصحاب المشئمة؟ قال (هم) مع الكفار أما أصحاب الميمنة لم يذكر معهم (هم) لأنه لو قال هم أصحاب الميمنة لكان أصحاب الميمنة حصراً على هؤلاء الذين ذكرهم في الآيات السابقة ولكن أصحاب الميمنة أكثر من هؤلاء . الذين يتواصون بالصبر ويتواصون بالمرحمة هؤلاء فقط أصحاب الميمنة وهذا غير صحيح لأن رأس الأمر الإيمان بالله وهؤلاء إذن من أصحاب الميمنة وليسوا أصحاب الميمنة حصراً فلا يصح القصر هنا أبداً بمعنى أن من عداهم ليسوا من أصحاب الميمنة. (عدم القصر هو السبيل الصحيح الذي لا يصح غيره هنا). أما الذين كفروا هو أصحاب المشئمة حصراً. هنا القصر في اصحاب المشئمة هو السبيل الصحيح الذي لا يصح غيره. آية (20)
عليهم نار مؤصدة) مؤصدة معناها مطبقة من أوصد الباب بمعنى لا ضوء ولا مخرج ولا فرج فيها. فلماذا قدم الجار والمجرور؟ تقديم الجار والمجرور هو للقصر بمعنى أنها مؤصدة عليهم حصراً أما إذا أخّر الجار والمجرور فقد يُفهم المعنى على أن النار المؤصدة ليست محصورة بالكفار ولكنها قد تكون مؤصدة على غيرهم أيضاً إذن الآيات متفقة مع بعضها النار على هؤلاء الذين كفروا وأصحاب المشئمة النار مؤصدة عليهم حصراً فالقصر هو الذي يؤدي المعنى المطلوب. ورد في بعض القرآءات لفظ (موصدة) فأيهما أصح؟ كلتا القرآءتين متواترتين وكلتاهما من القرآءات السبع الصحيحة وليس للقارئ أن يُرجّح إنما له ان يختار فقد يختار موصدة أو مؤصدة. مؤصدة وموصدة لغتان الفعل الأصلي (أصد وآصد مؤصدة) والآخر (وصد وأوصد موصدة ومنها الوصيد)، فمن كان لغته آصد اختار مؤصدة ومن كان لغته وصد اختار موصدة، وأنا شخصياً (والكلام للدكتور فاضل السامرائي) أختار لفظ (مؤصدة) بالهمزة لأنها مناسبة للحالة التي هم عليها فاليوم ثقيل وما هم فيه ثقيل حتى صوت الهمزة في (مؤصدة) وقعها ثقيل على السمع وهو أنسب مع جو المكابدة في السورة. في سورة الهمزة وصف تعالى بقوله (إنها عليهم مؤصدة* في عمد ممددة) وفي هذه السورة لم يعقّب على النار بشيء فما اللمسة البيانية في هذا؟ لو لاحظنا المذكورين في سورة الهمزة نلاحظ أنه تعالى قد توسّع في ذكر صفات المعذّب (ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالاً وعدده،...) وكما توسّع في الصفات توسّع أيضاً في العذاب (في عمد ممددة) أما في سورة البلد فلم يتوسع في ذكر صفات المعذبين وإنما قال (والذين كفروا) هذا والله أعلم. والأمر الآخر أنه في قوله تعالى (ويلٌ) بالرفع في أول السورة تدل على الهلاك التام الدائم ومناسب لقوله تعالى (في عمد ممددة) لأن ويل هي جملة إسمية (ويل: مبتدأ نكرة وخبره: لكل همزة لمزة، وويل فيها مهنى الدعاء وإذا كان فيها معنى الدعاء يصح أن تبدأ الجملة الإسمية بها مثل قوله تعالى سلام عليكم) ومن المعروف أن الجملة الإسمية تدلّ على الثبوت فاقتضى هذا الثبوت ثبوت الهلاك ودوامه (عليهم نار مؤصدة* في عمد ممددة) لا تفتح فيها الأبواب. ولو قال ويلاً لما ناسب سياق الايات معنى العذاب والتوسع فيه (ويلاً: هي مفعول مطلق لفعل محذوف معناه ألزمه الله ويلاً). كما أن ويل: هو مصدر من المصادر التي أُميتت أفعالها ومثلها : ويح، ويب، ويس، بمعنى أهلك. أما ويلاً: مفعول مطلق تقديره أهلكه الله مثل قعد جلوساً أو ألزمه الله ويلاً (مفعول به) والمشهور عند النحاة المعنى: أهلكه الله إهلاكاً وهو مفعول مطلق. السؤال الآن أيهما أقوى في اللغة، ويل أو ويلاً؟ لا يمكن القول هنا أيهما أقوى لأن البلاغة في القرآن الكريم هو مطابقة الكلام لمقتضى الحال فأحياناً يقتضي الحال استخدام الجملة الإسمية فستخدم للدلالة على الثبوت وفي أحيان أخرى يقتضي الحال إستخدام الجملة الفعلية فتستخدم. الأمر الآخر في سورة الهمزة أن الله تعالى ذكر الكافر الذي يجمع المال ويعدده ويحفظه فكما حفظ الكافر المال وحمعه وحسب أنه يُخلده ولم بنفع به الآخرين أغلق الله تعالى عليه أبواب جهنم (في عمد ممددة) وناسب هذا الإستيثاق في حفظ المال الإستيثاق في الخلود في النار. أما في سورة البلد فلم يكن سياق الكلام على هذا النحو وإنما وصف الله تعالى أن الكافر أهلك المال (أهلكت مالاً لُبدا). ثم إن في سورة الهمزة ذكر تعالى أن الكافر يحسب أن ماله أخلده وهذا الحسبان قابله الحسبان بحقيقة الخلود في النار بأن أغلق عليه الأبواب وجعل النار عليه في عمد ممددة . وكذلك في سورة الهمزة وصف الله تعالى الكافر أنه يتعدّى على الآخرين ويهمزهم ويلمزهم ويمنع خيره عنهم والذي يتعدى على الآخرين ينبغي أن يُحبس والحبس يغلق عليه الأبواب ويكون في عمد ممددة ولم يُذكر هذا في سورة البلد واكتفى بالوصف (الذين كفروا بآياتنا) ولم يذكر أنهم اعتدوا على الآخرين. والكفر درجات والعقوبة دركات بحسب ما يفعله الكافر فليس كل الكفّار في عذاب واحد وفي دركة واحدة بدليل قوله تعالى (في الدرك الأسفل من النار). ثم إن المعذّبين في سورة الهمزة كفّار وزيادة فهم كافرون، يتعدون على الآخرين، يجمعون الأموال، يحسبون أن مالهم يخلّدهم وهذا كله لم يُذكر في سورة البلد ولهذا ناسب الإستيثاق في الحبس والجعل في عمد ممددة للكفار في سورة الهمزة. لماذا لم يُذكر جزاء المؤمنين في السورة كما ذكر جزاء الكفار؟ قال تعالى في السورة (لقد خلقنا الإنسان في كبد) والكبد كما قلنا سابقاً هو المشقة والمعاناة ولا يناسب جو السورة ذكر الجزاء وإنما ذكر الإشارة إلى المؤمنين أنهم أصحاب الميمنة. والسورة كلها في المشاقّ والمتاعب فلم يناسب ذكر الجزاء للمؤمنين مع كل ما في السورة من مشقة وتعب وسلوك النجدين واقتحام العقبة واليوم ذي مسغبة والكبد هذا والله أعلم. *(عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) البلد)لماذا قدم الجار والمجرور؟ ولماذا قُرِئت (مؤصدة) بالهمز وما الفرق بينها وبينموصدة بدون الهمز؟(د.حسام النعيمى) أولاً هي قُرئت موصدة وقرئت مؤصدة، يعني عندنا قراءتان والذين قرأوا موصدة من السبعة أكثر ممن قرأ مؤصدة. الذين قرأوا مؤصدة أبو عمرو قارئ البصرة وحمزة من قراء الكوفة وحفص عن عاصم. لأن شعبة قرأها عن عاصم من غير همز وإبن كثير ونافع (المغرب العربي، لما أقول المغرب أعني شمال أفريقيا الجزائر، المغرب، تونس وليبيا في الغالب تأخذ بقراءة المشارقة وبعضهم يأخذ بقراءة أهل المغرب) عندنا فعلان: الفعل أصد بالهمز ووصد وكلاهما بمعنى الغلق. الثلاثي هذا لما تدخل عليه الهمزة يعني: وصد تصير أوصد صار من أربعة أحرف، جينما يكون أربعة أحرف في المضارع وفيه همزة تُحذف. عندنا دحرج مضارعه يدحرج (فعلل يفعلل) (هذا الكلام فيه طول لذا نكمله في الحلقة القادمة). في الجزء الأول من السؤال لماذا تقدمت الجار والمجرور لأنه كأنه نار مؤصدة عليهم. مبتدأ وخبر و(عليهم) متعلّق بخبر محذوف. (نار) نكرة ولا يجوز الإبتداء بالنكرة لكن وصِفت. كان ممكناً في غير القرآن أن يقول نار مؤصدة عليهم لأنها النكرة موصوفة لكن هو ذكرهم من قبل (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)) إقتراب الأفعال واقتراب الضمير في (عليهم) هؤلاء الذين أتكلم بشأنهم عليهم نار مؤصدة. الشيء الثاني لما يقول (عليهم) يعني هناك شيء سينزل من فوق سيعُمّهم ما ذكر ما هو. يمكن في غير القرآن عليهم رحمة، عليهم غفران، فكأنه يشوقهم (عليهم ماذا؟) هؤلاء الذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة أصحاب الشمال عليهم نار مؤصدة ولو لم يقدِّم يفوت هذا المعنى، معنى المفاجأة بعد ذلك لما يقول عليهم ينتظرون عليهم ماذا ثم يفاجئهم. والأمر الآخر لو قيل في غير القرآن (نار مؤصدة عليهم) كأن النار يفسّر وصف للمشأمة (قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود) كأنه بدل فحتى لا يكون هذا الخلط واللبس، هذه البدلية هم أصحاب الشمال وليست المشأمة هي النار وإنما المشأمة أن يأخذون كتبهم بشكالهم وما قال الشمال وإنما مشأمة حتى يشمل اليد الشمال والشؤم حتى يجمع عليهم الأمرين ولذلك قدم هنا. هذه فائدة التقديم في هذا الموضع. يبقى التفصيل من أين جاءت كلمة مؤصدة ومن أين جاءت كلمة موصدة جانب صرفي . العلماء يقولون عندنا فِعلان: أَصَد ووَصَد يقولون كلاهما بمعنى، أصد مثل وصد لكن ما عندنا في العربية، في الإستعمال العربي وصد وأصد وإنما عندنا أوصد وآصد. أوصد الباب وآصد الباب كلاهما بمعنى، كلاهما بِزِنَة أفعل (أوصد بزنة أفعل، وآصد بزنة أفعل أيضاً لأن أصله أأصد بهمزتين). لما يكون عندنا همزتان في أول الكلمة، الثانية ساكنة هذه الساكنة تُقلب إلى جنس حركة ما قبلها. فإذا كانت حركة ما قبلها فتحة تقلب ألفاً، من أمن نقول آمن أصلها أأمن، إيمان أصلها إئمان بالكسرة، أُومن أصلها أؤمن فتُقلب وهذا القلب واجب وليس إختيارياً باختيارهم. إذا إلتقت همزتان في الأول الكلمة الثانية ساكنة تقلب إلى جنس حركة ما قبلها وجوباً وليس جوازاً. آصد أصلها أأصد، أأصد وأوصد من أربعة أحرف، الفعل إذا كان من أربعة أحرف مثل دحرج لما تتصل به أحرف المضارَعة المفروض أن لا يتغير فيه شيء، يعني دحرج يبدأ بالدال والحاء (دح)، يدحرج يبدأ بالياء والدال لا يتغير، بعثر يُبعثر، زلزل يزلزل، لما نأتي إلى الرباعي المبدوء بهمزة مثل أكرم المفروض أن يقال يؤكرم بزِنة يدحرج لكن العرب ما قالوا يؤكرم. عندنا شطر بيت ما قبله شيء ولا بعده شيء – وأنا فتشت فلم أعرف قائله ورجعت في الموسوعة الشعرية في المجمع الثقافي في أبو ظبي وفيها مليوني وأربعمائة ألف بيت من الشعر ما وجدته – يقول الشاعر: فإنه أهلٌ لأن يُأكرم. لما نأتي إلى آصد المفروض (يُأأصد) العرب لا تقول يُأأصد كما لا تقول يأكرم إنما قال يؤصد ومن أوصد ما قالوا يُأوصد وإنما قالوا يوصد, لما نأخذ إسم المفعول بإبدال حرف المضارعة ميماً مضمومة وفتح ما قبل الآخر سيكون عندنا من يؤصد مؤصَد ومن يوصِد موصَد، التأنيث مؤصدة وموصدة. إذن كلا اللفظين يعود إلى معنى واحد وهو من الرباعي وهو إسم مفعول فالمعنى واحد لكن بعض قبائل العرب نطقتها هكذا مثلما بعض قبائل العرب تقول أكّد الشيء يؤكّده تأكيداً وبعضهم يقول وكّد الشيء يوكّده توكيداً والتوكيد يقول علماؤنا أفصح من التأكيد. القبائل التي تقول يوكِّد أفصح من القبائل التي تقول يؤكد. عندنا في مؤصدة قراءتان: قارئ البصرة أبو عمرو وأحد قراء الكوفة حمزة وحفص عن عاصم معناه بعض قبائل الكوفة قرأت مؤصدة وقبائل البصرة كانت تقرأ مؤصدة، المدينة (نافع) والآن أهل المغرب يقرأون بها، مكة (إبن كثير)، الشام (إبن عامر)، بعض قبائل الكوفة الأخرى (الكسائي وشعبة عن عاصم) كلهم كانوا يقرأون موصدة فالذي يقرأ مؤصدة في الحقيقة أقل من الذين يقرأون موصدة وكما قلنا سابقاً كلتا القرآتين ثابتة عن رسول الله r بقراءته إياها مباشرة أو بإجازتها عن ربه سبحانه وتعالى لهذه القبائل. فهذه إذن مسألة مؤصدة وموصدة كلتاهما بمعنى واحد لكن موصدة هل تعني مغلقة أو تعني مُطبقة؟ بعض العلماء قالوا هي على معناها مغلقة عليهم وبعض العلماء قالوا في قوله (عليهم نار مؤصدة) أي كأن النار جاءت من علو غطّتهم كأنها مطبقة عليهم بسبب حرف الجر (على) وقلنا أن هذه الصورة عندما نقول عليهم كأنه نزلت عليهم وشملتهم وغطّتهم وكلا القولين له ما يؤيده من لغة العرب.
لمسات بيانية في سورة البلد (الآيات: 14 إلى نهاية السورة)